أسرة البلاغ
ومضة:
· الرجل القوي الهادئ محبوب دائماً، ومحترم، إنّه مثل الشجرة ذات الظل الكثيف، أو مثل الصخرة التي تحمي من العاصفة.
· ذوو النفوس الدنيئة، يجدون اللذة في التفتيش عن أخطاء العظماء.
· كلما ارتفع الإنسان تكاثف حوله الغيوم والمحن.
الحكيم: ما لي أراك حزيناً، مشغول القلب والفكر، ماذا أصابك يا صديقي؟
القائد: أشعر بانهزامي في معركة الحياة، أفتقد الأمل، أشعر بالأسى..
الحكيم: لا أصدق أنّ القائد القوي المقدام يتخاصم مع الحياة ويقف حائراً، أخبرني ما يزعجك؟
القائد: نوعٌ من الناس يكره الامتياز، يعادي التفوق، يخاف خوفاً عميقاً من أن يرى شخصاً ناجحاً، شخصاً محبوباً صادقاً، وجهاً جميلاً، منظر الضعف يريحه ويسعده.
الحكيم: إذن فأنت تقصد الامتياز عندما يصبح محنة؟
القائد: الامتياز أصبح محنة، وجد في هذا الزمن من يعادي المميزين ويحاول تدميرهم بأي طريقة. أخبرني يا صاحبي ما سر هذه النفسيات التي تحارب الامتياز؟
الحكيم: أصحاب هذه النفسيات يا صديقي لا يملكون صفة جميلة تميزهم عن غيرهم، وفي الوقت نفسه لا يكلفون أنفسهم عناء العمل والاجتهاد لاكتساب أي صفة جميلة، وعندما يتعرون أمام أنفسهم أو أمام الناس، ويظهر ما فيهم من نقص، لا يجدون مخرجاً لهم غير كراهية الامتياز، والعمل على تشويه المميزين وتحطيمهم، فكيف يقفون أمام النجاح من دون نجاح، وأمام القوة من دون قوة، طريقهم الوحيد هو نقد الشخص المميز، وتشويه صورته، إقناع أنفسهم والآخرين بأنّ هذا المميز شخص عادي جدّاً لا أهمية له.
القائد: لقد حاولت الالتفات إلى الجوهريات في الحياة، وتغاضيت عن التوافه، لكن شرورهم تربصت بي ولم يتركوني.
الحكيم: وهل تظن أنهم يفكرون في الأشياء الجوهرية مثلك، أو يؤمنون بما تؤمن به من أفكار إنسانية، هل تظن أنّ البشر لا يملكون أي نوع من الخديعة والغدر؟
القائد: كيف ترتاح هذه النفسيات وتنطفئ نار الحقد في صدور أصحابها؟
الحكيم: انهيارك يا صاح هو ما يريح تلك النفسيات التي أوجدها تميزك، ويطفئ نار حقدهم، ويعيد الهدوء والاطمئنان إلى نفوسهم.
القائد: انصحني يا حكيم، لقد تعبت..
الحكيم: يجب أن ترى الآخرين رؤية صحيحة، أن تتصور انفعالاتهم الخفية السوداء وتدركها، أضف إلى قوتك فهماً واقعياً دقيقاً للنفس البشرية، احتم بالحذر وبقليل من سوء الظن بالنفس البشرية. ولا تنسَ أبداً مع ذلك أنّ الحياة يوجد بها نماذج رائعة تحترم الامتياز وتسانده وتنتمي إليه وترتبط به.
تنهد القائد بألم، نظر إلى الوراء، وعادت به الذاكرة إلى القصة التي قرأها ذات يوم، واتهم كاتبها بغرابة الفكر، واليوم تبين له غرابة الحياة وعمق الكاتب.
كان في مدينة بشرى مرة، رجل كريم، عطوف، محبوب ومقدر من جميع الناس. غير أنّه كان ثمة رجل فقير الحال، جعل دأبه وديدنه ذم الكريم، والتشهير به، وتحريك لسانه أبداً، ودائم التشنيع به.
وكان الكريم يعرف ذلك، ولكنه ظل صابراً لا يحرك في شأنه ساكناً.
وأخيراً، خطر في باله أن يضع له حداً، وأرسل إليه في ليلة من ليالي الشتاء خادمة، وحمله كيس طحين، وعلبة صابون، وقالب سكر.
قرع الخادم باب الرجل وقال: "أرسل إليك الكريم هذه الهدايا، علامة تذكار، ودليل رعاية".
وشعر الرجل بالزهو، وأخذه العجب، وذهب في نشوة الكبرياء إلى إمام الجامع وأخبره بما فعل الكريم قائلاً: "ألا ترى كيف أنّ الكريم يطلب رضاي؟".
لكن الإمام قال: "إيه. ما أحكم الكريم وأقل فطنتك.. إنّه يتكلم بالرموز، الطحين لمعدتك الفارغة، والصابون لقذارة سريرتك، والسكر ليحلو لسانك المر".
وأصبح الرجل خجلاً منذ ذلك اليوم، حتى من نفسه. واشتدت كراهيته للكريم ما لم تكن من قبل قط، وامتدت هذه الكراهية للإمام الذي كشف له الكريم وأطلعه على مقاصده.
إلا أنّه سكت بعد ذلك ولم يتعرض للكريم بكلمة. ما أغرب الحياة.
ارسال التعليق